الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والذي حسُن عندي إظهار العين هنا ياء مع زوال الياء القالبة لها من بعدها- أنها إنما حذفت اللام تخفيفا وهي منوية مرادة معتقدة؛ فأقرت العين مقلوبة ياء؛ دلالة على إرادة الياء التي هي لام، وإشادة بها، كما صحت الواو الثانية في قوله:
دلالة على إرادة الياء في عوَاوِير، وأنها إنما حذفت استحسانا وتخفيفا، لا وجوبا وتصميما. وكما قالوا: اضْتَقَطْتُ النوَى، فصحّت التاء، ولم تقلب طاء لوقوع الضاد قبلها، كما قلبت في اضطرب واضطمر؛ دلالة على أن الضاد فيها بدل من شين اشْتَقَطْتُ، فقد قالوهما جمعيا: اضْتَقَطْت، واشْتَقَطْتُ. وكما قالوا: كان من الأمر ذَيْتَ وكَيْت، فأقروا الياء بحالها دلالة على أن التاء فيها بدل من ياء ذَيَّةَ وكَيَّةَ؛ فتركت الياء على إرادة التثقيل. ويجب- على ما قدمنا- أن ذَيَّةَ من باب طويت على ما مضى، فكان يجب إذا حذفت اللام التي هي الياء أن تعاد الواو إلى أصلها، فيقال: ذَوْتَ، وكذلك القول في كَيْتَ، والعلة في الجميع واحدة. وأنشدَنا أبو علي للفرزدق: فهذا كقراءة الحسن: {أَيْمَا الْأَجَلَيْنِ} سواء.ومن ذلك قراءة الحسن: {عُضُدَكَ}.قال أبو الفتح: فيها خمس لغات: عَضُد، وعَضْد، وعُضُد، وعُضْد، وعَضِد. وأفصحها وأعلاها عَضُد بوزن رَجُل. وعَضْد مُسَكنٌ من عَضُد، وعُضْد منقول الضمة من الضاد إلى العين، وعُضُد بالضمتين جميعا كأنه تثقيل عُضْد. وقد شاع عنهم نحو ذلك، كقولهم في تكسير أحمر: حُمُر، قال طرفة: يريد: شُقْرًا.وأما عَضِد فلغة صريحة غير مصنوعة، ونظيرها رجل وَقِل وَوَقْل، ووظيف عَجِر وعَجُر. من العَضُد قولهم: عَضَدْت فلانا إذا قويتَه؛ وذلك لأن العضد أقوى اليد، ومنه عِضادتا الباب: جانباه؛ لأنهما كالعضدين له، وعليه بقية الباب.ومن ذلك قراءَة أبان بن تغلب: {ثُمُرَات} بضمتين.قال أبو الفتح: الواحدة ثَمَرَة، كخَشَبَة. وثُمُر، كخُشُب. ومثله أَكَمَة وأُكُم، ثم ضمت الميم إشباعا وتمكينا، كقولهم، في بُرْد: بُرُد، وفي قُفْل قُفُل. ثم جمع ثُمُر على ثُمُرات جمع التأنيث؛ لأنه لمّا لم يَعقل جرى مجرى المؤنث. وذلك عندنا لِتَخَضُّع ما لا عقل له، فلحق بذلك بِضَعْفَة التأنيث، فعليه قالوا: يا لثارات فلان: جمع ثأر لما لم يكن من ذوي العلم. ونحو قول أبي طالب: جمع زئير، والعلة واحدة. وقد ذكرنا هذا مستقصى في تفسير ديوان المتنبي عند قوله: ومنه ما أنشده الأصمعي من قول الراجز: فجمع حُورًا على حُورات لما ذكرنا.ومن ذلك قراءة بديل بن ميسرة: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَيَنُوءُ} بالياء.قال أبو الفتح: ذهب في التذكير إلى ذلك القدر والمبلغ، فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه، فقال: {لَيَنُوءُ} ونحوه قول الراجز: أي: حواصل ذلك، أو حواصل ما ذكرنا. وأخبرنا شيخنا أبو علي قال: قال أبو عبيدة لرؤبة في قوله: إن كنت أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن كنت أردت السواد والبَلَق فقل: كأنهما، فقال رؤبة: أردت: كأن ذاك، ويلك! هذا مجموع الحكاية، وهي مُتَلَقّاة مقبولة، كما يجب في ذلك.ولو قال قائل: إن الهاء في كأنه عائدة على البَلَق وحده لكان مصيبا؛ لأن في البلق ما يُحتاج إليه من تشبيهه بالبَهَق، فلا ضرورة هناك إلى إدخال السواد معه. ونحو القراءة قول الآخر: فأخبر عنه بلفظ الواحد، لأنه أجراه مجراه. وتجاوزوا هذا إلى أن أضافوا إلى لفظ الجماعة، فقالوا: أنصاريٌ؛ لأنه جعل الأنصار جاريا مجرى الأب، أو الأم، أو البلد.وقال الآخر: فنسب إلى جنس الكلاب، ولولا ذلك لقال: كَلْبِيّ، وفي الأنصاري: ناصريّ، كما تقول في الإضافة إلى الفرائض: فَرَضِيٌّ، وإلى السفائن: سَفَنيٌّ.ومن ذلك قراءة يعقوب: {وَيْكَ} يقف عليها، ثم يبتدئ فيقول: {أنه} وكذلك الحرف الآخر مثله.قال أبو الفتح: في {وَيْكأَنَّهُ} ثلاثة أقوال:منهم من جعلها كلمة واحدة، فقال: {وَيْكَأَنَّهُ} فلم يقف على وَيْ.ومنهم من يقف على وَيْ.ويعقوب. على ما مضى- يقول: وَيْكَ، وهو مذهب أبي الحسن.والوجه فيه عندنا الخليل وسيبويه، وهو أن وَيْ على قياس مذهبهما اسم سمي به الفعل في الخبر، فكأنه اسم أعجب، ثم ابتدأ فقال: {كَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} و{وَيْ كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. ف {كأن} هنا إخبارٌ عارٍ من معنى التشبيه، ومعناه: أن الله يبسط الرزق لمن يشاء. ووَيْ منفصلة من كَأَنَّ وعليه بيت الكتاب: ومما جاءت فيه كأن عارية من معنى التشبيه ما أنشدَناه أبو علي: أي: أنا حين أمسي متيم من حالي كذا وكذا.ومن قال: إنها وَيْكَ فكأنه قال أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، وأعجب لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، وهو قول أبي الحسن. وينبغي أن تكون الكاف هنا حرف خطاب لا اسما، بل هي بمنزلة الكاف في ذلك وأولئك؛ وذلك أن وي ليست مما يضاف ومن وقف على ويك، ثم استأنف فينبغي أن يكون أراد أن يعلم أن الكاف من جملة وي، وليست بالتي في صدر كأن، فوقف شيئا لبيان هذا المعنى. ويشهد لهذا المذهب قول عنترة: وقال الكسائي- فيما أظن: أراد: ويلك، ثم حذف اللام، وهذا يحتاج إلى خبر نبي ليقبل.وقول من قال: إن {وَيْكَأنَّه} كلمة واحدة إنما يريد به أنه لا يفصل بعضه عن بعض.ومن ذلك قراءة الأعرج وشيبة ومجاهد وعاصم في رواية أبان والحجاج بن أرطاة والحسن وأبي رجاء وسلام ويعقوب وحسن بن حيّ وعطية بن سعد وعبد الله بن يزيد {لَخَسَفَ بِنَا}.قال أبو الفتح: الفاعل اسم الله، والمفعول محذوف، أي: لخسف الله بنا الأرض، وقد كررنا ذِكر حُسن حذف المفعول به.وقرأ: {لانْخُسِف بنا} الأعمش وطلحة، وكذلك في قراءة ابن مسعود.قال أبو الفتح: {بنا} من هذه القراءة مرفوعة الموضع؛ لإقامتها مقام الفاعل، فهو كقولك: انْقُطِع بالرجل، وانْجُذِب إلى ما يريد، وانْقِيد له إلى هواه. وانفعل- وإن لم يتعد إلى مفعول به- فإنه يتعدى إلى حرف الجر، فيقام حرف الجر مقام الفاعل، كقولهم: سِيرَ بزيد.وإن شئت أضمرت المصدر، لدلالة فعله عليه، فكأنه قال: لَانْخُسِف الانْخِسَافُ بنا، فَبِنَا على هذا منصوبة الموضع؛ لقيام غيرها وهو المصدر مقام الفاعل ولا يكون للفعل الواحد فاعلان قائمان مقامه إلا على وجه الإشراك. اهـ.
|